تتداخل عندها اللهجتان الفلسطينية مع لهجتها اللبنانية. حنظلة يقف كعادته، شابكاً يديه من خلف، على طرف قميصها. حماستها متدفقة. نتالي أبو شقرا. عمرها إثنان وعشرون عاماً. هي أصغر من النكبة بتسعة وثلاثين عاماً. وهي الشابة اللبنانية التي وطأت قدماها أراضي غزة المحاصرة، ولم تغادرها طوال أشهر سبعة، بعدما دخلت الأراضي المحتلة مع الناشطين عبر البحر.
لا تنسى للحظة واحدة مشاعر الظلم والألم المتجمعة هناك، في الأرض التي وصلتها سبعة أيام قبل بدء العدوان، من دون أن يعلم جيش الاحتلال بوجود لبنانية بين الوفد التضامني. في غزة، شاركت الشابة في إسعاف الجرحى، وتنقلت بين سيارة وأخرى تحت الرصاص، في سبيل تقديم أي مساعدة ممكنة. وخلال إقامتها استقبلتها أكثر من عائلة فلسطينية، لكن كانت عائلة الطبيب أسعد أبو شرخ هي التي تبنتها فعلياً، وهو الطبيب نفسه الذي استقبل السفينة فور وصولها.
نتالي الشابة التي تخرجت من الجامعة الأميركية في بيروت، بتخصص علم الاجتماع، تقول إنها «تهتم بالقضايا الإنسانية منذ صغرها، وتحتل القضية الفلسطينية مرتبة الصدارة عندها». الفتاة فلسطينية الهوى، أو هي فلسطينية الهوى والعقل معاً.
في العشرين من كانون الأول الماضي دخلت نتالي غزة ضمن رحلة سفينة «الكرامة» التابعة لحركة غزة الحرة، والتي كانت أول السفن التي خرقت الحصار على غزة. منذ أيام عادت الشابة الناشطة إلى وطنها الأم لتحكي عن هول ما شاهدته عيناها من دمار ومجازر وظلم ارتكبوا بحق الشعب الفلسطيني. وحين سنحت لها فرصة نادرة بالخروج ابان الحرب، رفضت.
من هي نتالي وما الذي دفعها للذهاب إلى غزة؟ «أنا فلسطينية، لاجئة ولدي أشقاء شهداء». تختار هذه الكلمات لتعرّف عن نفسها. الشابة عاشت طعم المعاناة اليومية، فجعت بمأساتها وذاقت آلامها. ذهبت إلى غزة، لأني لا انتمي إلى وطن بل أنتمي إلى ثورة، تقول. رغبت بشدة في رؤية كل شيء على ما هو، وفي عاينة الألم اليومي. والآن هي تردد «لقد زرت الدولة النووية الأكثر ظلماً، ولي الشرف أني وطأت الارض التي تجثم على قلبها، وتعلمت من شعبها معنى المعاناة تحت الاحتلال، في مشاهد مشابهة لما عشته خلال عدوان تموز على لبنان». كل هذا رسخ قناعة معروفة سلفاً: همجية العدو الذي يدمن استهداف المواطن العادي في كل حروبه».
خلال الأيام القليلة هناك، لامست الفتاة الحصار، دققت في تفاصيله وعاشت همجيته التي تمارسها «دولة التفرقة العنصرية، التي أقامت في غزة سجناً جماعياً، ومعزلاً عرقياً وغرفة غاز شاسعة يقتل فيها يومياً عدد من الفلسطينيين».
يوم حزمت نتالي حقائبها وأمرها، نالت المعارضة الأكبر من العائلة، لكن ذلك لم يمنعها من الإصرار على المشاركة في الرحلة.والخوف؟ تجيب: «لم احس به. شعرت أني فتاة مجنونة، وبعد هذه التجربة أصبحت جريئة». تقول إنه لا يمكن أن تنسى لحظة واحدة من تلك الأيام، ولا يمكن أن تتجاهل لذة التحدي التي كانت تنتابها طوال تلك الأشهر.
تحكي عن أوقات تحت القصف، حيث «ما كان يمكن للمحاصرين إلا الاستماع للأغاني الثورية، أو الترفيه عن النفس وعن الأطفال الذين كانوا الأكثر جرأة بيننا».
لم تصدق تعبير صمود الشعب الفلسطيني إلا بعدما لمسته في عيون أطفاله.
لم تنته الحرب مع وفق إطلاق النار، برأي نتالي. هي اللبنانية التي واجهت الإسرائيلي عبر المكبر الصوتي، أثناء مرافقتها للمزارعين. «قلت له باللغة الانكليزية إننا مواطنون غير مسلحين ولن نغادر المكان إلا بعد انتهاء المزارعين من عملهم». كانت قد رافقت المزارعين بعد الحرب حيث توجهت معهم إلى الأراضي الزراعية التي تبعد 300 متر عن السياج مع أراضي الـ48. «كان العدو يطلق النار علينا، برغم اننا لم نشكل خطراً عليه، وهم كانوا يترجلون من سياراتهم العسكرية ويصوّرون بعضهم أمامنا وهم يحملون سلاحهم».
وكانت لنتالي حصة في التعرف على المعاملة المصرية للفلسطينيين عند معبر رفح. ولم تشفع لها جنسيتها اللبنانية بمعاملة مختلفة. أمضت يوماً كاملاً على معبر رفح، بعدما قررت مرافقة 400 فلسطيني بين جرحى ومرضى مع عائلاتهم. واجهها السؤال الذي توقعته من السلطات المصرية عن سبب وجودها في غزة. لم تجد جواباً غير «رحت اعمل يلي ما قدرتوا تعملوه». لم تنل نتالي تصريح الدخول إلى مصر. رفضت حينها مغادرة مكتب الضابط المصري الذي بدوره أمر بإخراجها بالقوة: «رموا أغراضي وأخرجوني بالقوة، ووجه إليّ الضابط كلاماً مسيئاً ومهيناً».
عادت نتالي بعدها إلى غزة. هناك حيث تابعت العمل مع الشعب المحاصر واستمدت منه قوة الصمود والصبر. أما اليوم، فهي موجودة في لبنان لتكمل المسيرة من هنا. لم تغادر غزة إلى الابد. ستعود مجدداً. هي تحضر للعمل على مشروع تواصل بين ناشطين في غزة وفي بيروت، كذلك، فهي تود القاء الضوء على تجربتها، لربما «يرافقني لبنانيون في رحلتي المقبلة».
اثنين | ثلاثاء | أربعاء | خميس | جمعة | سبت | أحد |
---|---|---|---|---|---|---|
30 | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 |
7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 |
14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 |
21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 |
28 | 29 | 30 | 31 | 1 | 2 | 3 |