«الأقليات» المسيحية خارج الحياة السياسية .. إلى متى؟

فيما تضع القوى اللبنانية الكبرى على اختلاف انتمائاتها المذهبية «قالب الجبنة» الحكومية أمامها، لاقتطاع حصصها وفق قدرات «عضلاتها»، يتفرج من هو أقل قوة على حفلة المحاصصة دون أن يتمكن من مد يده لشراكة في السلطة التنفيذية. ولا شك بأن «قانون الستين» الذي ولدت على يديه التركيبة الحاكمة، يساهم بجزء كبير في استيلاد السلطة التنفيذية، ليكون «أمراء الطوائف» حاكمين بأمرهم في حسم مصير الصيغة الحكومية. وتطالب «الأقليات» منذ ولادة الاستقلال في العام 1943 بتوزيرها في الحكومات المتعاقبة ولكن لا آذان صاغية. وتجدر الاشارة إلى مفارقة تستعاد للذكرى، وهي أن ميشال شيحا من المذهب اللاتيني أي ينتمي الى الاقليات، لم يخطر بباله أن الدستور الذي ساهم في وضعه لن يكون ضمانة لأبناء طائفته، ومن هم في «الخانة» نفسها، للوصول إلى «الجنة الحكومية».
تعاني «الأقليات» المسيحية من «عقدة» التعبير عنها بوصفها أقليات، وهي التي تضم ستة مذاهب مسيحية: السريان الأرثوذكس، السريان الكاثوليك، الأشوريون، الكلدان اللاتين والأقباط، ما يعني نصف الطوائف المسيحية وثلث الطوائف اللبنانية. وتحمل هذه التسمية الملحقة بطوائف مشهود لها بتاريخها المسيحي وتجذرها في وجدان المسيحية، شيئاً من التجاهل والاستضعاف. فإذا كان المقصود هو عديد أبناء هذه الطوائف فلماذا حصرت بهذه الطوائف دون غيرها من مكونات المجتمع اللبناني تسمية أقليات؟ ولماذا على سبيل المثال استنثي الانجليون من هذا التصنيف والعلويون أيضاً؟
تاريخياً كانت هذه الطوائف ضحية مجازر عديدة ارتكبت في تاريخ المسيحية وهي تعاني اليوم من مشروع اضطهاد ينفذ بحقها في العراق، فيما تواجه منذ تكوين الجمهورية اللبنانية تهميشاً سياسياً على أكثر من مستوى.
جغرافياً تتوزع هذه الطوائف في لبنان وبحسب ترتيب حجمها العددي، على الأشرفية أولاً، المصيطبة ثانياً، زحلة ثالثاً والمتن رابعاً. ويشكل السريان الارثوذكس وسريان الكاثوليك، الطائفة الأكبر بين زميلاتها، ويبلغ عدد ناخبيها نحو 33000 ناخب، من أصل نحو 55000 ألف ناخب يشكلون مجمل أبناء هذه الطوائف الست من الأقليات.
تغييب نيابي ووزاري وإداري
يقف النظام اللبناني على أساسات طائفية ـ مذهبية توزع الحصص بين مكوناته الكبيرة على قاعدة الهوية الطائفية لكل فريق، ورغم ذلك حرمت هذه الطوائف الست من حقوقها في السلطة اللبنانية على أكثر من مستوى:
ـ على مستوى المشاركة في صناعة القرار شهدت هذه الطوائف الست عملية استبعاد سياسية بحقها منذ قيام الجمهورية اللبنانية، بحيث استبعدت عن كل الحكومات التي عرفها لبنان منذ الاستقلال حتى اليوم، ولم تصل أي شخصية من هذه الطوائف إلى السلطة التنفيذية، في تصرف ينم عن عنصرية في التعاطي معها، كما يقول البعض من أبنائها، أو كأن هؤلاء يعدون من الدرجة الثانية فيما البقية هم مواطنون من الدرجة الأولى.
وإذا كان معيار التمثيل النيابي هو المتحكم بالتمثيل الحكومي على قاعدة النسبية، فقد شهدت هذه القاعدة استثناءات، إذ إن الطائفة الانجيلية المفصولة عن هذه الطوائف الست ويبلغ عددها حوالى 7000 ناخب تمكنت من الوصول إلى الحكومة ثلاث مرات، عبر سمير مقدسي وباسل فليحان وسامي حداد. في المقابل فإن الطائفة العلوية التي يبلغ عديدها نحو 26000 ناخب تتمثل بنائبين ولكنها لم توزر مرة، مع العلم أن هذه الطائفة لم تكرس كطائفة رسمية معترف بها من السلطات اللبنانية إلا بعد ولادة «اتفاق الطائف»، في حين أن خمس طوائف من هذه الأقليات معترف بها منذ تكوين الجمهورية اللبنانية باستثناء القبطية التي أضيفت أيضاً بعد «الطائف».
ـ على مستوى التمثيل النيابي، ومنذ إنشاء أول البرلمانات اللبنانية والتي توالى عددها من 44 نائباً إلى 66 ثم 99 وصولا الى 128 نائباً، كان لهذه الطوائف ممثل واحد في المجالس النيابية فقط لا غير، إذ رغم الزيادات التمثيلية التي كانت تلحق بكل طائفة عند توسيع البرلمانات فقد حوصرت هذه الطوائف الست في موقعها التمثيلي الأحادي وكأن شيئاً لم يحصل. ووفقاً لحسابات القسمة التمثيلية فإن معدل التمثيلي للنائب الواحد هو بين 15 ألف صوت و20 ألف صوت، في حين يبلغ عدد ناخبي هذه الطوائف الست نحو 55 ألف ناخب ما يعني بالنتيجة منحها نائبين أو ثلاثة نواب. وبالتفصيل يتبين أن معدل النائب لدى الطائفة المارونية نحو 20 ألف ناخب، وعند الأرثوذكس 17 ألف ناخب، وعند الانجيليين 17 ألف ناخب، عند السنة 32 ألف ناخب، عند الشيعة 32 ألف ناخب، عند الدروز 23 ألف ناخب، عند العلويين 13 ألف ناخب، أما عند الأقليات فيبلغ 50 ألف ناخب. وقد تقدم النائب نبيل دو فريج باقتراح قانون يطالب فيه برفع عدد أعضاء مجلس النواب من 128 إلى 132 على أن يصار إلى رفع حصة الأقليات من نائب إلى ثلاثة نواب مع إضافة نائب شيعي وآخر سني من باب التوازن. وما زاد من الطين بلة هو إلحاق مقعد الأقليات الوحيد وبحسب «اتفاق الدوحة» بالدائرة الثالثة في بيروت وإلحاق قرار تمثيلها بـ«تيار المستقبل» القوة الأبرز في المنطقة والقادر على التحكم بمصير مقعدها، فكان نبيل دو فريج نائباً عن الأقليات (من الطائفة اللاتينية) بفعل ضمه إلى «لائحة المستقبل».
ـ على مستوى الإدارة العامة والسلك الدبلوماسي تشهد الطوائف الست وضعاً مزريا لأن الكبريات من الأحزاب والطوائف والقادة يحتكرون الوظائف الأساسية في الإدارة العامة مستبعدين في أدائهم من هم أضعف منهم. إذ إضافة إلى الغياب عن السلطة التنفيذية ممثلة بالحكومة، تغيب هذه الطوائف الست عن وظائف الفئة الأولى في الإدارة العامة، ويستثنى عهد الرئيس الراحل الياس الهرواي في هذا الشأن، بفعل إسناد خمس وظائف أساسية لخمسة من أبنائها، وما خلا ذلك غياب كلي، يزيد من الغبن اللاحق بأبناء هذه الطوائف.
توزير الأقليات هو أشبه بالحلم بالنسبة إلى النائب دو فريج، لأن تحقيقه يصطدم على الدوام بحاجز المحاصصة بين القوى السياسية لا سيما المذهبية لتوزيع المقاعد الوزارية، ويقول: كيف يمكن لحكومة الـ24 وزيراً أن تسمح «بالمبدأ» بتوزير الأقليات فيما تعجز حكومة الثلاثينية عن تلبية هذا المطلب؟
تمكنت الطائفة الانجيلية من تكريس عرف يسمح لأبنائها بدخول الجنة الحكومية فيما عجزت ست طوائف أخرى عن السير على خطاها، وإن كان دو فريج لا يرى في توزير الانجيليين تكريساً لعرف أو امتيازاً منحه الرئيس الشهيد رفيق الحريري ومن بعده الرئيس فؤاد السنيورة بل لخصوصية الوزيرين فليحان وحداد في الملف الاقتصادي وليس لهويتهما المذهبية.
مسؤولية مشتركة
أما مسؤولية التوزير فتقع بنظر دو فريج:
ـ على رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان الذي لا يفترض به أن يوقع مرسوم تأليف حكومة تغيّب ست طوائف مسيحية.
ـ على رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري الذي يفترض بدوره أن يراعي التنوع الطائفي والمذهبي وأن لا يستثني أي فريق، وإن كان يريد الوصول إلى السرايا الحكومية من الباب التوافقي علماً بأنه لا يعترض أبداً على توزير هذه المذاهب.
ـ على العماد ميشال عون الذي شنّ حملة على ضم مقعد الأقليات للدائرة الثالثة في بيروت ويفترض عليه اليوم أن يستكمل حملته لتوزير الأقليات أم أنه بات ناقماً على هذه المذاهب لامتناع السريان عن التصويت للائحته في المتن؟
ـ على الأرمن الذين يحتكرون المقاعد الوزارية المخصصة لغير الطوائف المسيحية الثلاث الأساسية، علماً بأن الدستور لا ينص على توزيع محدد للمقاعد، لا سيما أن «الطاشناق» أقام الدنيا ولم يقعدها في العام 2000 بعدما قام الحريري بتوزير فليحان من حصة الأرمن، فيما اليوم منح الطاشناق صوته للرئيس المكلف الحريري مخافة أن تذهب حصته الوزارية لمصلحة الأقليات. وينسحب هذا الاعتراض على أرمن قوى الرابع عشر من آذار الذين امتنعوا في العام 2000 من منح الثقة لحكومة الحريري بسبب توزير فيلحان، وهم اليوم أيضاً يرفضون هذا التوزير.
ويختصر دو فريج الوضع بالقول لا أحد مستعد لتقديم مقعد وزاري للأقليات وهو حق لهم.
ولكن أبناء هذه الطوائف لا يتطلعون إلى «تشليح» غيرهم مكتسباتهم وليسوا في وارد المطالبة بما هو لغيرهم ولا يسعون إلى مصارعة الطوائف الأخرى في سبيل مقعد نيابي أو وزراي، كما يقول رئيس الرابطة السريانية حبيب افرام، لافتاً إلى أن أن المطلوب هو تمثيل كل فئة برجالاتها عملاً بالنظام اللبناني، ولا يفترض أن تكون هذه الطوائف في خانة الاستثناء من حقوق تمنح لكل الطوائف ما عداها، مشيراً أن للرابطة تاريخا طويلا في النضال في سبيل حقوق هذه الطوائف، وآخر مساعيها كانت توجيه كتاب إلى رئيس «تيار المستقبل» سعد الحريري عشية الانتخابات اللبنانية تبلغه أنه بإمكانه أن يربح مقعداً نيابياً إضافياً، ولكنه سيخسر لبنان إذا لم يسع إلى تمثيل كلّ الطوائف بحريتها وقواها الحيّة.
ولذا من الضروري بحسب افرام إجراء مراجعة حقيقية عند صانعي القرار، في فهم صيغة لبنان التعددية القائمة على احترام حقوق كل مكوناته الطائفية ومعاملتها على قدم وساق.