كارين سالم
قبل أربعة أيام من موعد الانتخابات النيابية، وجّه آباء المجمع في الصرح البطريركي، الذي ينعقد في أول أسبوع من حزيران من كل عام، نداءً الى المسيحيين خصوصاً واللبنانيين عموماً دعوهم فيه الى «تجديد الثقة بالميثاق الوطني، والإقبال على الانتخابات بمسؤولية يقتضيها الواجب الوطني.. والى تقبّل النتائج بروح عالية». كان ذلك يوم الأربعاء الذي سبق استحقاق «الأحد اللاذع». يوم الجمعة صدر بيان ختامي عن المجمع كرّر تقريباً العبارات نفسها الواردة في النداء لناحية «التحلي بالمناعة الأخلاقية ومقاومة الإغراءات... وفتح صفحة جديدة عنوانها لبنان الجديد للجميع وبالجميع». خضع النداء قبل صدوره الى نقاش مستفيض. واللجنة التي كلّفت صياغة البيان، اضطرت الى إعادة صياغته أكثر من مرة بسبب «ملاحظات» أبداها العديد من المطارنة، حيث كان هناك حرص «أكثري» بين الأساقفة على «تبريد الأجواء» في ظل الحملات الانتخابية «المسمومة» بين فريقي المعارضة والموالاة، و«حفلات» التخوين المتبادلة.
وهكذا صدر النداء ـ البيان من دون أن يتضمن ما يمكن أن يفسّر أنه «نصرة» لفريق سياسي على فريق آخر، أو يترجم في خانة الانحياز والاصطفاف. لكن يوم السبت، وقبل ساعات من فتح صناديق الاقتراع، حذّر البطريرك نصر الله صفير في عظته الأسبوعية من خطر «يهدّد الكيان» في حال فوز المعارضة في الانتخابات. قامت القيامة ولم تقعد. ولاحقاً صنّف «التدخل البطريركي» المفاجئ، على لائحة «العوامل المؤثرة» التي أدت الى خسارة المعارضة ... بشهادة أهلها، فيما هلّلت الموالاة لـ«معجزة أرضية» فعلت فعلها في مسار الانتخابات.
أخذ البعض على صفير «خرقه» للقانون الانتخابي، والبعض الآخر رأى في «التمايز» البطريركي عن «اتجاهات» مجلس المطارنة الموارنة، تكريساً لما اعتبر حدّاً فاصلاً كانت بدأت ترتسم معالمه منذ سنوات عدّة، بين «الموقف الشخصي» لصفير وموقف الكنيسة. الأداء البطريركي «فتّح العيون» على محطات سابقة غير بعيدة، شهدت على تدخل بعض المطارنة بشكل مباشر في الملفات السياسية ودفاعهم عن فريق الأكثرية الحاكمة، وتسلّح مطارنة آخرين بالصمت المطبق اعتراضاً منهم على دخول الأساقفة في متاهات الفرز السياسي الحاد، وتحديداً بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
البطريرك «ضحية»...
للكنيسة موقفها من هذه «الصورة الملتبسة». يقول أحد المطارنة «مجلس المطارنة الموارنة يعبّر عن رأيه من خلال البيان الشهري الذي يصدره. وصودف يوم الأربعاء قبل الانتخابات انعقاد المجمع المقدّس، فصدر النداء في صيغته المعلنة. لكن هذا لا يمنع البطريرك صفير من أن يكون له رأيه الشخصي في مواضيع معينة من خلال عظاته وتصاريحه، وهو رأى في هذه اللحظة السياسية بأن مصير لبنان قد يكون في خطر في حال فتح الباب مجدداً لعودة التأثير السوري المباشر في السياسة اللبنانية». هو هاجس، يضيف المطران، يتملّك البطريرك انطلاقاً من دوره التاريخي في حماية الصيغة اللبنانية. هذا الهاجس لم يزل كلياً بعد الانسحاب السوري. وواقع الأمر أن البطريرك صفير تعايش يومياً قبل الانتخابات مع أجواء الحملة الانتخابية لقوى 14 آذار والتي ركّزت على خطر النفوذ السوري والايراني إذا ما فازت المعارضة. قد يكون البطريرك وقع «ضحية» هذا الضغط الاعلامي والسياسي... صفير انسان بالنهاية وليس معصوماً عن الخطأ، وتلاقى ذلك مع هواجسه العميقة فرأى الخطر واعتبر أن من واجبه التنبيه منه... أما مجلس المطارنة الموارنة فربما له رأي آخر في الموضوع».
يستفيض المطران نفسه في توضيح آلية اتخاذ القرارات ضمن مجلس المطارنة بالقول «المجمع هو مؤسسة ديموقراطية، حيث يحق لكل مطران التعبير عن رأيه بكل حرية. لا مكان للإملاءات، على الرغم من وجود وجهات نظر مختلفة. والبيان الشهري لا يصدر إلا بعد حصوله على الأكثرية بالتصويت، مع العلم أن نحو 85% من البيانات الشهرية التي صدرت قبل الانتخابات كانت تصدر بالإجماع، وجرت العادة على الأخذ برأي المطالبين بإعادة صياغة البيانات، إذا كان هناك من ملاحظات».
لا ينكر المطران «أن الوضع السياسي المتأزم فرض قراءات مختلفة ومتباعدة أحياناً بين المطارنة، حيث ينقل كل مطران من موقع أبرشيته هواجسه الى المجمع... وشهادة للتاريخ، لكن البطريرك صفير لم يحاول يوماً فرض رأيه على المطارنة».
السير على «خط الزلازل»
بإرادتها، ومنذ العام 2000، اختارت بكركي السير على «خط الزلازل»، إن من خلال عظات صفير أو البيانات الشهرية لمجلس المطارنة أو النداءات السنوية. دافعت بشراسة حتى العام 2005 عن «السيادة اللبنانية»، وهاجمت دمشق بعنف ومن دون هوادة وصولاً الى اعتبارها مسؤولة عن كل الحوادث التي حصلت في لبنان منذ العام 1975. بعد الانسحاب السوري تفرّغت لـ«محاربة» تداعيات التمديد للرئيس اميل لحود. «حسمت» نصاب انتخاب رئيس الجمهورية بالثلثين وتصدّت للشغور الرئاسي. قالت ما قالته في «حرب تموز » ورفضت دوماً «وجود السلاح» بيد فئة من اللبنانيين. رأت في اعتصام رياض الصلح «إفشالا للمحكمة الدولية خوفاً من الحقيقة»... وبين بيان شهري وآخر، أطلق مجلس المطارنة «وثيقة الثوابت المسيحية» و«ميثاق الشرف» في التعامل بين القيادات المسيحية، وسعت الكنيسة لجمع الزعماء المسيحيين المتخاصمين، وقدّم البطريرك صفير لائحة المرشحين الخمسة للرئاسة الى الموفد الفرنسي جان كلود كوسران بعد 51 يوماً على بدء المهلة الدستورية لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، وقبل 9 أيام على انقضائها...
«مبادرات مستحيلة» ومواقف «فوق العادة» وتحذيرات مستمرة وخطابات تحتمل الكثير من التأويل... هكذا بدت الكنيسة في «انتفاضتها». بقي صوت البطريرك صفير الأعلى و«عصاه» تحسم خيار «الصرح». يزن كلماته الهادئة «بميزان الذهب» وهو الضليع في «تطويع اللغة»، ويتجاوز «المتعارف عليه» في قاموس بكركي عندما «تدعو الحاجة الى ذلك». خلفه يقف مجلس المطارنة الموارنة بـ«فسيفسائه» السياسية. يعكس في كثير من الحالات غضب «سيّد الصرح»، وفي حالات أخرى «يضغط» لخروج البيان الشهري بلغة «أكثر ليونة». يتولى صفير عادة إعداد تقرير شهري حول لقاءاته واتصالاته يقرأه أمام المطارنة الحاضرين، ويعدّ «مشروع بيان» للمناقشة ثم الإقرار تمهيداً لتلاوة البيان الشهري من قبل أمين سر البطريركية المونسنيور يوسف طوق.
المطّلعون على خفايا مداولات مجلس المطارنة، يؤكدون بأن المجلس تحوّل في السنوات الخمس الأخيرة، وتحديداً بعد الانسحاب السوري، الى «مجلس توازنات سياسية» يشبه صورة البلد. فريق «أكثري» موال لسياسة البطريرك، وفريق أقلية «معارض» أو «متمايز». للكنيسة أدبياتها في مقاربة هذه المسألة. تؤكد على «وجود اختلافات في وجهات النظر في أحيان كثيرة داخل المجلس.. والكلمة في النهاية للأكثرية». اليوم ثمة من ينقل عن صفير «عدم استيعابه» لقلب 14 آذار الصفحة بعد الانتخابات، وكأن «الخطر» الذي حذّرت منه خلال حملتها الانتخابية «قد زال». هذا الخطر برأي صفير «ما يزال موجوداً، فيما هناك من «استغل» مواقفه لتعزيز رصيده السياسي فقط».
خلافة البطريرك
يربط البعض «التمايز» بين المطارنة الموارنة بموضوع خلافة البطريرك صفير والجلوس على كرسي بكركي المذهّبة. موضوع سابق لأوانه في مقياس العديد من المطارنة، لكن الأمر الواقع يفرض نفسه. فكل مطران هو «مشروع بطريرك». لا تخفي الكنيسة حقيقة أن المجمع «مؤسسة بشرية والطموحات مشروعة داخلها، لكن هذا لا يعني أن هناك انقساما حول المسألة، أو مواجهة «على الطريقة اللبنانية» كما في رئاسة الجمهورية..» يقول مصدر كنسي «الرعية قد تفضّل مطراناً على آخر، لكن عندما تقفل أبواب بكركي وتبدأ المداولات، نعود الى الصلاة والتأمل. لن يكون هناك تجرّد مئة بالمئة، لكن الغاية الأساسية انتخاب الأفضل والأصلح للمرحلة المقبلة».
مجلس المطارنة
يبلغ عدد مجلس المطارنة الموارنة 40 مطراناً يترأسه البطريرك نصرالله صفير. وعملياً هناك 13 مطراناً مستقيلاً، وبالتالي ليس لديهم مسؤوليات مباشرة على أبرشياتهم. والبقية (27 مطراناً) ينقسمون الى ثلاث فئات:
ـ مجلس المطارنة الموارنة في لبنان (14 مطراناً).
ـ مجلس المطارنة في النطاق البطريركي (سوريا، مصر، الأراضي المقدسة، قبرص).
ـ مجلس مطارنة الانتشار (الولايات المتحدة الأميركية، كندا، المكسيك، البرازيل، أرجنتين، استراليا) وزائر رسولي في أوروبا بسبب عدم وجود أبرشية مستقلة.
يلتئم المجمع الماروني في أول أسبوع من حزيران من كل عام برئاسة البطريرك، ويشمل مبدئياً مطارنة النطاق البطريركي، وفي هذا المجمع يتم انتخاب مطارنة جدد عندما يكون هناك حاجة لذلك، إضافة الى اتخاذ سلسلة قرارات تهمّ الكنيسة المارونية وعلاقتها ببقية الطوائف وكنائس الانتشار. سن التقاعد عند المطارنة هو 75، أما البطريرك فلا يتم انتخاب خلف له إلا بعد وفاته أو تقديم استقالته. ويُنتخب المطارنة بالثلثين في عمليات التصويت الثلاث الأولى، وبالأكثرية في الدورة الرابعة. أما الثلثان فنصاب إلزامي لانتخاب البطريرك، حتى لو تكررّت عمليات التصويت. ويسعى المطارنة المشاركون بعملية التصويت بكل فئاتهم حتى المتقاعدين، لحصول إجماع على انتخاب البطريرك، لكن المداولات ونتيجة الانتخاب، تتم «أرشفتها» في ملف سري في البطريركية، حيث يحلف المطارنة اليمين قبل الانتخاب على حفظ السر.
في الاجتماعات الشهرية يحضر حكماً المطارنة الـ14، إضافة الى بعض المطارنة المستقيلين الذين لهم حق المشاركة، فيما مطارنة النطاق البطريركي غير ملزمين بحضور الاجتماعات والتصويت. في أعمال المجمع الماروني تكلّف لجنة لصياغة البيان والبنود المدرجة فيه. وفي الاجتماعات الشهرية لمجلس المطارنة، قد تكلّف لجنة من المطارنة للصياغة أو يحضّر صفير نفسه مشروع بيان لمناقشته، أو أن أمانة سر المجمع تكلّف بالمهمة.
النداءات السنوية
منذ العام 2000 دأب مجلس المطارنة الموارنة على إصدار نداءات سنوية تدعّم بياناته الشهرية، وتشكّل نقطة الارتكاز لها. شهير «نداء ايلول الأول» الذي «وضع الإصبع» على «جرح» الوجود السوري في لبنان ودعا الى تطبيق «اتفاق الطائف». نداء اطلق بعد أربعة أشهر من الانسحاب الاسرائيلي من جنوب لبنان والبقاع الغربي، واستدعى همسات من قبل السفير الاميركي آنذاك ديفيد ساترفيلد في آذان بعض المسؤولين اللبنانيين، قائلاً لهم «كنا نتوقع كلاماً من هذا النوع... لكن ليس بالحدّة التي سمعناها».
لم يخرج النداءان الثاني والثالث لمجلس المطارنة عن «روحية» النداء «الأم». والاستياء البطريركي من مواقف وأداء الرئيس السابق أميل لحود أكمل «مشهد النقمة» في نداءات بكركي: تجاهل تام لاستقبال لحود للبطريرك صفير في بيت الدين، وحضوره قداس دير القمر، خلال زيارة المصالحة التي قام بها صفير الى الجبل. مقارنة الوجود السوري بالعهد العثماني وعهد المتصرفية والانتداب الفرنسي.
«فساد الادارة والوضع الاقتصادي المتدهور» كانا العنوان الأساسي للنداء الرابع الذي شكّل «ورقة» اقتصادية اجتماعية طالت مختلف الملفات من الكهرباء الى الضرائب الى صندوق المهجّرين والبطالة والسرقات... من دون إغفال «أم القضايا».
أما النداء الخامس روحية نداء 2000، «مرفقاً» بمواجهة عنيفة ضد التمديد للرئيس لحود، من دون أن يسميه. واقع الأمر أنه كان أعنف النداءات التي أطلقت بوجه سوريا «المسؤولة وحدها عن لبنان منذ 1976 وكأنه أقليم سوري». وقاموس المطارنة فاض بالعبارات الحادة «دمشق تأمر وتنهي وتعيّن الحكام وتنظّم الانتخابات وتحمي الفاسدين والمفسدين...» واتهمها «بالتفريق بين المسلمين والمسيحيين».
على وقع صخب تظاهرة 14 آذار والانسحاب السوري من لبنان، صدر النداء السادس واصفاً الانسحاب «بالحلم الذي تحقّق»، لكنه أشار الى مواصلة أجهزة الاستخبارات السورية وغير السورية عملها على الأراضي اللبنانية بطريقة غير منظورة... تكرّرت عبارات الرفض «لفئة تحمل السلاح ولها وزراء ونواب»، وأطلق المجلس دعوة «للمحافظة على العلاقات التاريخية المتشابكة مع دمشق عن طريق إقامة تعامل بين دولتين مستقلتين». واعتبر الشبهة ببعض قادة الأمن بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، أمرا مخجلا ومخزيا وجعل الرئاسة الأولى عرضة لانتقادات تطال هيبتها».
وأطلق مجلس المطارنة في النداء السابع «صفارة الإنذار» للسباق الرئاسي قبل موعده بسنة، بدعوته المرشحين الى التزام أصول التنافس على المنصب. ذكّر بـ«غياب دور الرئاسة الأولى»، وانتقد تفرد حزب الله من دون أن يسمّيه «بقرار الحرب».
أربع ساعات فصلت بين صدور «النداء الثامن» للمطارنة الموارنة والانفجار الذي أودى بحياة النائب أنطوان غانم. كانت محطة تذكيرية «بأنه منذ العام 2004، وقع 14 حادثة اغتيال». ندّد المجلس بـ«إمارة حزب الله»، وشرّح الوضع الرئاسي المفتوح على المجهول.
«النداء التاسع» عام 2008 جاء بعد انتهاء أزمة انتخاب رئيس الجمهورية. وطالب باتمام التعيينات في المراكز الإدارية والحكومية الشاغرة، وأمل بإجراء الانتخابات النيابية «في جو ملائم وبلا مشاكل».
قد يكون «نداء» صفير «الانتخابي» الذي اطلقه عشية 7 حزيران، الأكثر إثارة للجدل من كل بيانات المطارنة الموارنة السابقة ونداءاتهم السنوية، على مدى تسع سنوات. مسيحيو المعارضة يجاهرون اليوم بـ«حقيقة مؤلمة». هناك رعية «موالية» لصفير وأخرى «معارضة» لـسياسته «المنحازة». يقول أحد المطارنة «هذا جو مؤسف. وكل تحركاتنا اليوم تهدف الى إزالة سوء التفاهم القائم، وتقريب وجهات النظر بين بكركي وبين من هم علناً ضد سياسة البطريرك». الأهم، برأيه، غياب التشكيك بسلطته الروحية. أما في السياسة فهناك خيارات مختلفة، والبطريرك ينظر الى الأمور من موقعه الوطني. وهو لا يدّعي فرض رأيه، ولا بعض الموارنة بالمقابل، يعتبر أن رأي صفير الشخصي في القضايا السياسية يلزمه..».
اثنين | ثلاثاء | أربعاء | خميس | جمعة | سبت | أحد |
---|---|---|---|---|---|---|
30 | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 |
7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 |
14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 |
21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 |
28 | 29 | 30 | 31 | 1 | 2 | 3 |