دينا ابي صعب
دودة وخيط وشرنقة. تُرى كيف تنتج هذه الخلطة الغريبة قماشاً مزركشاً ناعماً؟ لا يستوعب الأطفال في لقائهم الأول ب«دودة القزّ» سر الدودة التي تعمل حتى الاختناق، تتدثر بثوب أبيض اسمه «شرنقة»، تنسج منها أيادي العاملين خيوطاً واهية شفافة، تتجمع لتصنع «شلة» من خيوط الحرير. متحف الحرير في بلدة بسوس مكان مثالي لسرد القصة.
يستدرجك الطريق نزولاً الى «متحف الحرير». طريق يتلوى على سفح الجبل بين شجر الزيتون وشجيرات الوزّال والبلاّن، يرسم الإطار البيئي الطبيعي لنشوء صناعة الحرير في لبنان، التي استوطنت الجبل وبعض المدن الساحلية بعدما بدأت بالظهور أيام الفينيقيين وتكفلت الحرب الأهلية اللبنانية على مراحلها بقضم هذا الإرث الاقتصادي الحضاري البيئي العريق شيئاَ فشيئاَ، ولم يبق اليوم منه سوى حرفة نادرة.. ومتحف!
تبدأ رحلة الحرير في بسوس بعبور البوابة الخارجية الى حديقة هي مصدر ورق التوت الذي «يعلف» به الدود، تتصاعد في مدرجات ترابية (جلالٍ) عبر «قادومية» تصل الى المبنى الأثري الذي جهد أصحابه بعد الترميم للإبقاء على طرازه المعماري القديم، وعلى الأسقف العالية المعقودة أو المدعمة بجسور خشبية ثخينة فيه، ما وفر خصائص مثالية لمحبّي التراث والبيئة والطبيعة، بالإضافة الى متعة الاكتشاف.
يعرض المتحف على زواره تحفة حقيقية، هي دودة القز في كل مراحل نموها، معروضة وحية، يدلّ الأطفال عليها بالأصابع. يجمع الدود بعد تفقيس البيض في مستوعبات حسب عمره، يبدأ بطول نصف سنتيمتر أو أكثر، تعلفه السيدة العاملة في المتحف بورق التوت المقطع تماماً كما في الماضي، فينمو حتى يبلغ طوله نحو عشر سنتيمترات. عند البلوغ، تفرز دودة القز مادتي الحرير والصمغ، تلف الخيط وتلصقه حولها لتشكل شرنقة بيضاوية بيضاء أو صفراء باهتة. دورة حياة القز ورحلة الحرير الصامتة تستمر، فتحل الشرانق بالمغازل، وفي هذه المرحلة تكون العاملات مضطرات إلى خنق الدودة بالماء الساخن داخل الشرانق، قبل أن تنمو فتتحول الى «زيز» يثقب الشرنقة قاطعاً في طريق خروجه الخيط الرقيق الطويل الملفوف حول جسده، الذي قد يصل طوله إلى 1500 متر كحد أقصى. أما المتبقي من الشرانق، فيحفظ لضمان موسم الحرير المقبل.
يقصد المتحف سنوياً آلاف الزائرين من الأطفال والسياح والمغتربين وأبناء القرى القريبة، بالإضافة الى الجمعيات البيئية والتراثية التي تستغل وجود هذا المتحف لإقامة المعارض والنشاطات المختلفة.
كان المبنى حتى العام 1945 «كرخانة» لصنع الحرير تعود ملكيتها لآل فياض، ومن ثم تحول بفعل الإهمال إلى مكان مهجور يستخدمه الرعيان كحظيرة لجمع الماشية. اشتراه آل عسيلي عام 1973، وبدأوا العمل على ترميمه في العام 1999 وتم افتتاحه في العام 2001.
61 عاماً مع الحرير
يزيد عمر المغازل المعروضة في المتحف على المئة عام، تقول السيدة التي تشرح رحلة الحرير في المتحف إنها «كانت تستخدم للف خيوط الحرير التي تخرج من الشرانق بعد حلها في أحواض من الماء، وبعد هذه العملية تحمل «شلل» الحرير إلى الصباغة، وكانت تستخدم فيها أنواع من التوابل والتراب وأوراق الشجر، ومن ثم تنسج على النول».
يقول روبير فغالي الذي يعمل في المتحف حائكاً على نوله الخشبي، إنه «يمارس هذه المهنة منذ 61 عاماً»، هذا الرجل الثمانيني الصبور والهادئ، تكلم ليوصي زواره الصغار الآتين في رحلة مدرسية للتعرف الى الحرير «بالدرس جيداً كيلا يضطروا لتعلم حرفة تكون بصعوبة نسج الحرير». هو أمضى شبابه في هذه المهنة، وهي حرفة تعتمد على الصبر والدقة والمثابرة، وكانت جزءاً من الاقتصاد اللبناني في الماضي ولم تكن محصورة بفئة محددة من الناس. «اليوم الوضع اختلف، فقد انحسر العمل بالحرير وباستخدامه على السواء بسبب دخول الأقمشة المصنعة وارتفاع ثمنه من جهة ثانية»، يقول فغالي. أما عن الحرير الذي يستخدمه في الغزل فيشرح فغالي أنه «حرير لبناني مصنوع في «كرخانة» الزوق، والحرير الذي أنسجه يباع كتذكارات في المتحف، وهو حرير مخطط وغير مطرز لأن التطريز والرسومات الدقيقة تحتاج الى آلة خاصة».
تعرض في المتحف أيضاً «لوحات» من الحرير المطرز والمنقوش من دول «طريق الحرير»، التي كانت تمر من الصين ودول آسيا الوسطى الى الهند وإيران وصولاً الى بيروت، ومن هناك تنطلق الى عواصم ومدن أوروبا والعالم. ومن المعروضات مطرزات عثمانية وعربية وصينية وعالمية بعضها مشغول بخيوط الذهب والخرز، وبعضها الآخر لوحات من النسيج المنفذ بدقة عالية.
حكاية الحرير
يعود اكتشاف الحرير، حسب أسطورة مذكورة في قصائد الفيلسوف الصيني «كونفوشيوس» الى حوالى سنة ۲٧۰۰ قبل المسيح، حين حاولت إمبراطورة صينية استخراج شرنقة سقطت من شجرة توت في كوب الشاي الساخن الذي تشربه، فإذا بالخيوط تعلق في أصابعها. كان هذا الاكتشاف البسيط كافياً لاحتكار سر صناعة الحرير في الصين لقرون عديدة، الى أن نقلت إحدى الأميرات الصينيات هذه الحرفة الى الهند، حين خبأت الشرانق في شعرها وسافرت بها لتتزوج من امير هندي. ووصل الحرير إلى لبنان في القرن الرابع قبل المسيح، واشتهر الحرير اللبناني باسم الحرير الامبراطوري، لأن الفينيقيين صبغوه بالصباغ الأرجواني الذي بيع بأغلى الأسعار لأميرات ذلك العصر.
تطورت مهارات هذه الصناعة في القرن التاسع عشر بمساعدة نساجي مدينة ليون الفرنسية، إذ أنشئ أول معمل لحل الشرانق والغزل (كرخانة) في بلدة بتاتر الجبلية في العام 1841 أدت فيه مجموعة من الغازلات الفرنسيات المحترفات دور المدربات لفتيات لبنانيات، وكانت تلك المرة الأولى التي تغادر فيها المرأة اللبنانية بيتها للعمل، ما أحدث ثورة اجتماعية في هذه البيئة التقليدية الريفية البسيطة، وبرر تقبل هذا الانفتاح اجتماعياً الاعتماد على الحرير كمورد صناعي تجاري زراعي رئيسي، وادت هذه الحركة الاقتصادية الى تأسيس أول مصرف لبناني، وتطوير المرافئ لتتلاءم وحاجيات الاستيراد والتصدير، وصار اسم «موسم القز» لدى اللبنانيين «موسم العز».
في بدايات القرن العشرين كانت صناعة الحرير في أوج ازدهارها في لبنان، وكان بالإمكان إحصاء المئات من آلات الغزل والحياكة (النول) والمشاغل المتخصصة في مختلف المناطق، وكانت تجارة الحرير الخام والمشغول تصدر إلى العالم من المدن البحرية التجارية اللبنانية في بيروت وطرابلس وصيدا وصور.
متحف الحرير اليوم هو أحد المتاحف البيئية القليلة النموذجية في لبنان التي تفسح المجال أمام زواره بالتعرف عن قرب على مراحل صناعة الحرير، وعلى نمط حياة متكامل تآكلت معالمه بفعل المدنية والحضارة.
Mon | Tue | Wed | Thu | Fri | Sat | Sun |
---|---|---|---|---|---|---|
30 | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 |
7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 |
14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 |
21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 |
28 | 29 | 30 | 31 | 1 | 2 | 3 |