تنشط الأحزاب في مدينة زحلة مع غياب شبه تام للقوى التقليدية التي بدأت تفقد سيطرتها على المدينة منذ ما قبل الانتخابات النيابية الأخيرة. القوى الحزبية المنتشرة في حياة المدينة تعمل جاهدة لتؤكد فشل نظرية «زحلة مقبرة الأحزاب» التي صاغها التقليد السياسي
عفيف دياب
نظريّتان تستحوذان على اهتمام الزحلاويين، مهد الأحزاب هي مدينتهم، أم لحدها؟ فالشارع المحلي المنقسم على ذاته بين النظريتين يقدم قراءته، وكل طرف يدافع عن نظريته مستنداً إلى تاريخ المدينة السياسي في العمل الحزبي وفشله في حقبات ماضية أمام حزب التقليد بزعامة النائب السابق إلياس سكاف، وإرث زعامة هذا الحزب أباً عن جد. ويقول منسق التيار الوطني الحر في زحلة ومنطقتها طوني بو يونس إن الأحزاب في زحلة «ليست في وهم الاستيلاء على المدينة ومصادرة قرارها السياسي. فالأحزاب الناشطة على الساحة الزحلاوية، ومنها حزبنا، تحترم الخصوصية الزحلية، ونحن لم نجرب يوماً إلغاء هذه الخصوصية، لا بل إن تحالفنا السياسي كان متيناً مع الزعامة المحلية التي كانت في أحيان كثيرة متقدمة علينا في موقفها السياسي»، مشيراً إلى أن التيار الوطني الحر في زحلة «استطاع التوفيق بين مشروعه ومواقفه السياسية مع مشروع التقليد السياسي في زحلة ومواقفه».
■ مزاوجة فريدة من نوعها
«اتهام الأحزاب في زحلة بأنها صادرت القرار الزحلاوي ليس في محله»
«التيار الوطني الحر لم يخرج من تحت عباءة الزعامة السكافية في زحلة»
تأكيد التيار الوطني الحر متانة علاقته بالتقليد السياسي في زحلة، وحفاظه على خصوصية المدينة، لا يخلوان من دعوته هذا التقليد إلى إعادة النظر في حراكه المحلي. ويقول بو يونس إنّ على «التقليد السياسي الزحلاوي أن يعمل على وضع ميثاق سياسي ليتحول حزباً محلياً أكثر تنظيماً وحراكاً غير موسمي، ويكون فاعلاً على المستوى الوطني أكثر من المحلي»، لافتاً إلى أن الانتخابات الأخيرة في زحلة «أظهرت مدى تجاوب الناس مع الخطاب السياسي الوطني العام، وما حصدناه من أرقام نحن والزعامة السكافية في المدينة يشير بوضوح إلى أهمية وجود برامج سياسية، فقد توافقنا على مشروع سياسي وطني له بعض الجوانب المحلية، وهو مشروع مشترك ومستمر وتحالفنا لم يزل قائما لأننا استطعنا التوفيق بين المشروعين». يضيف بو يونس أن الحالة الحزبية العونية في زحلة «تنمو وتتطور، وهذا ما يدل بوضوح على أن المدينة تحبّذ العمل الحزبي. نحن في التيار الوطني تحالفنا مع سكاف، والقوات والكتائب تحالفتا مع التقليد السياسي الآخر في المدينة المتمثل بالنائب نقولا فتوش وآخرين». ويؤكد بو يونس أن اتهام الأحزاب في زحلة بأنها صادرت القرار الزحلاوي «ليس في محله، ففي المدينة غضب سياسي على التحالفات، لا على الاحزاب، فالأحزاب التي تحالفت مع تيار المستقبل رهنت قرارها، بينما الزعامة المحلية المتمثلة بالوزير سكاف كانت فاعلة جداً في تكتل التغيير والإصلاح وعلى طاولة الحوار. ونحن هنا تركنا لسكاف تأليف لائحة الانتخابات النيابية الأخيرة، فيما الفريق الآخر لم تكن لائحته صناعة زحلاوية، ومن هنا جاء الغضب على التحالفات، لا على الاحزاب»، مؤكداً أن نمو التيار الوطني الحر تنظيمياً في زحلة «كبير جداً وحالات الانتساب إلى التيار تفوق التوقعات. وقد قفزت خطوة نوعية منذ الانتخابات النيابية الأخيرة، ما يشير إلى أن حزبنا في زحلة فاعل وناشط ويلقى خطابه السياسي قبولاً، ولا سيما بعد نجاحه في الحفاظ على الخصوصية السياسية المحلية».
■ زحلة مهد الأحزاب...
تأكيد التيار الوطني الحر في زحلة أن المدينة ليست مقبرة للأحزاب، يشدد عليه أيضاً المسؤول الإعلامي للقوات اللبنانية في المدينة والبقاع الأوسط إبراهيم مسلم، مشدداً على أن «هناك مغالطة تاريخية في زحلة تقول إن المدينة مقبرة للأحزاب». يضيف مسلم قائلاً إنّ من يروج لهذه المقولة «ليس إلا جاهلاً بتاريخ المدينة. فعبر التاريخ شهدت زحلة ولادة أحزاب كانت فاعلة على الصعيد الوطني العام. فالحزب الشيوعي انطلقت نواته التأسيسية من هنا، وبيت الكتائب في المدينة من عمر الحزب، والحزب السوري القومي كان فاعلاً في الماضي، والكتلة الوطنية وحزبا النهج والحلف كان لهما حضور بارز، والحركات العروبية خلال العهد التركي ولدت هنا، والتيارات التغييرية قبل الاستقلال وما بعده كانت تجد في زحلة تربة خصبة لحركة نضالها السياسي والشعبي، وصولاً إلى القوات اللبنانية التي كان كبار مؤسسيها من زحلة، وكل هذا وغيره يؤكد أن المدينة كانت مهداً للأحزاب، لا لحداً لها».
ويرى مسلم أن مقولة زحلة مقبرة للأحزاب «هي صنيعة التقليد السياسي المحلي الذي لم يكن يوماً إلا أداة في يد السلطات المتعاقبة. فالسلطة في ما مضى كانت تصنع زعامات محلية وهمية وكتلاً برلمانية لحسابات شخصية بهدف الاستفادة المتبادلة»، موضحاً أن محاولات «تحويل زحلة من مدينة إلى إقطاعية سياسية فشلت عبر التاريخ. وخير دليل على ذلك، ما جرى في الانتخابات النيابية الأخيرة، حيث أكدت المدينة أنها لا تقبل أن تبقى تحت سلطة التقليد السياسي الذي لم يحسن تقديم مشاريع وبرامج سياسية تناسب المزاج العام المحلي المتأثر بالخطاب السياسي الوطني. فزحلة ليست جزيرة معزولة، وقد رفضت محاولة التقليد السياسي المحلي عزلها عن لبنان. فالأحزاب في زحلة، وفي طليعتها القوات والكتائب، أثبتت وجودها على الساحة المحلية، ولا يمكن التقليد السياسي نزع انتماءنا الزحلاوي النابع من انتمائنا الوطني العام». ويؤكد مسلم أن زحلة «للجميع، وليست ملكاً لهذا الشخص أو ذاك الحزب. ومعركتنا الانتخابية لم تكن ضد التقليد السياسي أو الزعامة المحلية، بل إن المدينة واكبت التطور الجاري في المجتمع المدني الذي عموده الفقري العمل الحزبي الذي يلقى قبولاً هنا».
لكن، هل الأحزاب صادرت قرار زحلة وفق مقولة الزعامة المحلية؟ يوضح مسلم بعدما يسأل: «أين كان قرار زحلة في السنوات الماضية؟ عبر التاريخ كان قرار زحلة في زحلة، لكن تمييع التقليد السياسي لهذا القرار وارتهانه لمشاريع غير وطنية أو لبنانية دفع ثمنه في الانتخابات النيابية وقالت زحلة كلمتها. ونحن في القوات اللبنانية ضد عزل زحلة عن جوارها وعن مشروع السيادة والاستقلال». ويؤكد أن التقليد السياسي في زحلة «انتهى نسبياً. فالمدينة تريد التغيير، وهي ترفض حكم الزعيم الأوحد، نحن هنا بحاجة إلى خطاب سياسي وطني والتقليد المحلي لا يستطيع توفيره، بل الأحزاب وحدها تملك القدرة على توفير البرامج والمشاريع السياسية الوطنية وتطويرها»، لافتاً إلى أن عمر القوات اللبنانية في زحلة 3 سنوات، و«بعد طول معاناة واضطهاد استطعنا بسرعة قياسية تثبيت وجودنا الحزبي والتنظيمي في المدينة، وهذا دليل إيجابي على أن المدينة لا ترفض العمل الحزبي، بل ترفده وتطوره وتحميه وتحاسب على أساس البرامج السياسية، وهي حاسبت في الانتخابات النيابية كل من خالف رغباتها وتطلعاتها السياسية».
■ ... ومقبرة للأحزاب
مسعى التيار «العوني» في زحلة إلى الحفاظ على التقليد السياسي وخصوصيات الزعامة المحلية، ورفض القوات اللبنانية هذه النظرية بعد إثبات فشلها وفق قراءاتها الزحلاوية، يرى فيهما التقليد السياسي الزحلاوي «مؤامرة تهدف إلى ضرب الخصوصية الزحلاوية وإلغاء زعامتها التاريخية». ويقول مقربون من الوزير إلياس سكاف كانوا قد رافقوا والده الراحل في نشاطه السياسي والانتخابي إن الأحزاب في زحلة «لم تستطع يوماً الحفاظ على المدينة وعلاقاتها مع الجوار. فزحلة ترفض الأحزاب شكلاً ومضموناً، وها هي الانتخابات النيابية الأخيرة أثبتت أن الأحزاب لا تريد الخير لأبناء زحلة، وصادرت القرار إلى معراب وبكفيا وقريطم. إنها حالة لن تدوم، وأهالي زحلة لن يسمحوا للأحزاب بأن تصادر القرار». ويؤكدون أن الأحزاب «ليست صناعة زحلاوية. والزحلاوي لا يريد لصناعة أجنبية أو غريبة عنه أن تتحكم به. وزعامة آل سكاف لا تتحدد في منصب نيابي أو وزاري».
لكن، ألم يتحالف سكاف مع حزب التيار الوطني الحر؟ يقول «عتيق» في الحزب السكافي إن التيار الوطني الحر «لم يخرج من تحت عباءة الزعامة السكافية في زحلة، لا بل فضل أن يبقى تحت هذه العباءة السياسية المحلية، وقد نجح العونيون في الحفاظ على عملهم الحزبي المستقل تحت سقف الزعامة المحلية. ويجب أن لا ننسى أن القاعدة العونية هنا بمعظمها من الحزب السكافي، وجرى الالتقاء على برنامج سياسي مشترك. والوزير سكاف كان مستقلاً في قراره، ولم يكن تحت تأثير الجنرال ميشال عون، خلافاً لما تروّجه القوات اللبنانية ومعها حزب الكتائب». ويضيف خاتماً أن الزعامة السكافية في زحلة «ليست ضد الأحزاب»، لكنها «لا تحبّذ أن تصادر الأحزاب قرار المدينة، والأيام المقبلة ستؤكد نظرية أن الزعامة المحلية تبقى هي الأقوى من كل الأحزاب».
تحالف الضرورة؟
نجحت القوات اللبنانية، ومعها حزب الكتائب في تكريس وجودهما الحزبي في مدينة زحلة، بعدما كان التيار الوطني الحر قد أثبت حضوره السياسي والشعبي منذ انتخابات عام 2005 النيابية، إذ تمت السيطرة «العونية» المتحالفة مع التقليد السياسي على المدينة.
نجاح الأحزاب السياسية المسيحية الثلاثة في ترسيخ أقدامها داخل زحلة، أسقط مقولة شهيرة كان يتغنى بها التقليد السياسي المحلي، تفيد بأنّ المدينة لا تستوعب الأحزاب رغم استفادة التقليد من الحضور الشعبي للأحزاب كما في حال تحالفه مع التيار الوطني الحر. إذ عمل التيار على احتضان التقليد ودعمه، رغم معرفته باستحالة تعايش جمهوره مع جمهور هذا التقليد السياسي، حيث أظهرت نتائج الانتخابات النيابية ما كان يخشاه الحزب البرتقالي من ردة فعل الحزب العائلي ـــــ التقليدي الأصولي على نشاطه الحزبي، وما ظهر من خلل في التنسيق الميداني يوم الانتخاب سترتفع وتيرته في مقبل الأيام رغم محاولات قادة الطرفين الكبار الحد من هذا الصراع الخفي بين نظرية «زحلة مقبرة الأحزاب» و«زحلة مهد الأحزاب»، ومحاولة المزاوجة بين الفكرين.